..زقزقةٌ - نسيمٌ
تقولُ إيميلي ديكنسون بأنَّها لو استطاعت إرشاد الطائر إلى عُشه، ما ضاعَ عُمرُها سُدىٰ.. وأكادُ أجزمُ بأنّها لو استمعت لزقزقة عصافير قلبي في نهارٍ مضىٰ، لأكملت حياتها سعيًا في خلقِ ليلٍ يحفهُّ نسيمٌ عُرف بالحبّ، وما كانَ له أن ينقضي بالألم!
أعيشُ ليلةً لا أكفُّ فيها عن التفكير.. ولا يبتلعُ قلبي سوىٰ الألم.. ليتني أحيا! ليتني أحيا! تتشابه الليالي، وينقضي النهارُ، وأنا بينهما لا أتذوقُ سوىٰ علقم اللا مُبالاة.. لستُ أدري كيفَ يعيشُ المرءُ، ويقعُ في غرامِ وحدته، ومن ثمَّ يودُّ التحرُّر وحده! لستُ أدري كيفَ نعيشُ برويّةٍ دونَ خوفٍ، أو رعبٍ، أو ألمٍ! تتشابه اللحظات، وتعصرُ قلبي في أشد الأوقات جحافةً، وأقساها حرارةً، وكأنَّ الذي بيني وبينَ المُعاناة ميثاقٌ غليظٌ يشدُّ وثاقي، ويحكمُ قبضتي، ويُقيِّدُ حُريتي.. إنه التفكيرُ، لعنتُنا الكُبرىٰ.. والإقلاعُ عن التفكير كالإقلاعِ عن التدخين.. أعراضٌ انسحابية لا تُحتمل.. وإنها أشياءٌ شتًى أفعلُها حينما أودُّ الإقلاعَ عن التفكير فيك.. ومع ذلك أفشلُ، أفشلُ جدًا.. كـالاستماع لأغنيةٍ صاخبة لا تؤيدُ شعوري، ولربما ترغب في محوه.. كـتهشيم دورقٍ زُجاجي سئمتُ من ملمسه.. كـإغراق بيتي بالماء.. كـتمزيق صورةٍ وحيدة تجمعُنا.. كـدمعةٍ بعثتُ بها بعيدًا.. كـأملٍ قبلتُ التعلُّقَ به طويلًا.. كـالسفر بعيدًا عن أعين عائلتي.. كـمحو كل ما يتعلقُ بكَ من ذاكرتي.. وإنها أشياءٌ شتّى، وإنها أشياءٌ لا تجدي نفعًا.. إني أحاولُ عبثًا.. في نهارٍ يقسو بحرارته على وجهي النَضِر، يهبُّ النسيمُ ليلًا، وتتطايرُ به شُعيراتي.. يهبُ النسيمُ الذي يجعلُني أفكِّرُ مليًا كيفَ أحيا دونَ ما يروي قلبي، دونَ ما أشهقُ الأنفاس لأجله.. أفكرُ وأفكرُ، وأشعرُ بنسمات الليل الباردة بعد يومٍ غارقٍ في الحرارة، والبؤس.. كم هي جميلة، ناعمة، ودودة! تُذكِّرُني بيومٍ لا زلتُ أحفظ تفاصيله بينَ طيات عقلي، وممرات قلبي.. النسيمُ الباردُ يعني حبًا صافيًا، عشتُ له، وبه، وفيه.. النسيمُ الباردُ يكتنفُ قلبي، فأعلمُ أنَّ كلَ شيءٍ لا زال حيًا فيَّ.. النسيمُ الباردُ يرتجفُ له قلبي؛ لأنه وحده يعني، أنني أحببت.. لذا بعد يومٍ شاق تملؤه الحرارة، وتتغلغل فيه القسوة، أعودُ أدراجي ليلًا نحو نافذتي، واستشعرُ برودة النسيم الليليّ؛ لربما لأنه دليلي الأوحد، بأنّي لا زلتُ هُنا، أحيا، وأحبُّ.. وإني الآن استمعُ لزقزقةٍ ألفتُها.. وأشكو لها الحُبَّ الذي مضىٰ، وقصرٍ لليلٍ كانَ معك..