..فداءٌ - عطرٌ
لو أنَّ عقيدتي لم تُحرِّم العناق.. لو أنَّ مبادئي أباحت الاشتياق.. لـكُنتُ لكَ عددَ ما قُدِّر لنا من الأنفس.. ..لـعِشتُ بكَ في كلِّ مرةٍ علمنا فيها أنَّ الحُبَّ اعتناق
عزيزي السيد الأنيق.. وددتُ في هذا اليوم تحديدًا أن أعيدَ ما عايشناه، وأُمرِّرَه على أروقة، وحُجرات عقلي؛ لئلا أنسى، لئلا أهرب بعيدًا، لئلا ألوذ بالحُزن الغاضب الذي يحرقُ لا يُعمِّرُ.. ولكن هيهات هيهات، لا مفرَّ.. ما زال حُزنًا عتيقًا مُستقرًا تهدأُ فيه الروح، ويستمرُّ فيه نبض القلب.. حُزنًا لا يقلُّ بل يتعاظم، بل يكادُ يفوح عطره.. وأراني دُرتُ باحثةً بينَ أوراق الذكريات، وأنين الآهات، أوزعُ ابتسامات.. ابتسامةً تصلُ للفؤادِ تُذكِّرهُ بلوعته، وشوقه الذي لا يزال حارًا كاللهيب المُستعر.. ابتسامةً لأجلها أناظرُ صورَتكَ في هيامٍ هادئ لذيذٍ شغوفٍ، هيامٍ يُسكرُ كـشرابِ النبيذ الأحمر القاني، يكادُ يدفعُني إلى الأعالي.. روحُكَ أسكرتني، قسماتُكَ أخجلتني، وأوصالُكَ أحبَّتني.. يا له من سُكرٍ لذيذ، لا يُحرَّمُ عليَّ.. يا له من سُكرٍ أردته ليَّ! ولا أجدني الآنَ سوىٰ حاملةٍ لـرسائلٍ خُتمت باسمكَ، وطُبعتَ لأجلكَ، نُثر عليها عِطركَ، خطّها قلمي لكَ وبـحُبِّكَ.. أُقرِّبُها إلى صدري، لعلّي استنشقُ آخرَ ما تبقىٰ فيكَ من عِطر.. لعلّي استنشقُ آخر ما تبقىٰ ليَّ منكَ.. إنَّه عِطرٌ، عطرُ الحُبّ -الذي جمعنا- يفوح.. وإنه سُكْرٌ له الروح تتوهجُ، ولوهلةٍ تنوح.. وإنها الذكرى.. ذكراكَ -يا حَبيبي- هي الأملُ الذي لا يزول، والحُبُّ الذي أبدًا لا ينضب مع المرور.. وعيناكَ؟ آهٍ، وألف آهٍ من عيناكَ، وليعلمُ الله أنَّ ما أحبَّ القلبُ سواكَ.. عزيزي.. ليتني كُنتُ عمودَ إنارةٍ في شارعكَ، لعلّي رأيتُكَ قَبلَ الوداع الأخير.. ليتني كُنتُ مصباحًا دافئًا في أقصى أركان غرفتكَ، لعلّي قُمت بمراسم ما قبلَ الرحيل.. ليتَ طالَ بنا الوقت فـأخبرتُكَ عمّا يؤرقُ مضجعي، ويهزمُ حيلتي.. ليتَني علمتُ لهذا الحُبّ ضريبةً أخرى غير هذا الألم، وتلكَ الجروح الغائرة، وهذه الخدوش البائنة.. ليتَني ما فكّرتُ كثيرًا، وطالَ بيَّ السَهر.. وإنها أمانيُّ مُستحيلة، والكثيرُ من (ليتَـني..) ويا ليتَني أدركتُ -مُنذُ بعيدٍ- أنَّ الحُبَّ تضحيةٌ، وفداء! عزيزي.. تمرُّ الأيام، وأفيقُ، والعرقُ يتصببُ على جبيني قائلةً يا ليتني ما عرفتُكَ، يا ليتني ما أحببتُكَ.. حينذئذٍ يحلُّ المساء، وتلفحُني برودةٌ لا مثيلَ لها تلجمُ عقلي، وتُقيّدُ لساني، وتدفعُ يدي إلى زجاجة العِطر الذي دومًا ما أحببت، وأنثرُ بعضًا من قطراتها على معصمي، وجبهتي؛ لعلّها ترتكزُ في صدري تلكَ المَرة.. أحملُ فؤادي الأليم، وأتمايلُ بجسدي على نغمةٍ اعتدنا سماعها معًا، حينئذٍ أتناسى روحي المُنكسرة، وفؤادي الذي يحتاجُ لإنعاش.. لأنَّه دونًا عن هذا وذاك، لقد أعلنتها صراحةً، وبدلًا من المرة ثلاث.. لأنّه فداكَ يا حَبيبي.. فداكَ روحي الغارقة بكَ يومًا بعد يوم.. فداكَ قلبي الذي أحبَّ..